أمي | في الذكرى الثامنة لرحيلها
كانت الساعةُ قد تجاوزت الثالثة فجر يوم الجمعة، هلعتُ من نومي، وانتابني قلقٌ مضنٍ، جعلني أدور في غرفتي بغير هدىً. لربعِ ساعةٍ ثم عدت للنوم، بشكلٍ متقطّع، حتى رنّ الهاتف الثابت قريب صلاة الفجر.
أذكر أن المتصلة سألت عن أبي، لا أذكر من أجاب تحديدًا، ولا أذكر اللحظات القليلة التي تلت ذلك، ولا من نقل إلي خبر وفاة أمي التي ترقد في المشفى منذ أقل من أسبوعين في غيبوبة تامة. لا أتذكر شيئًا لأني كنت أعرف أن اتصال تلك الساعة لا يعني سوى شيءٍ واحد، ثم استعدت وعيي، وبطيئًا أخذت أتشرب الحقيقة التي كنا نتهيأ لها طوال فترة مرضها، فنزل سيل من الدموع التي ألفها وجهي تلك الفترة. ثم لملمت شتات نفسي، كان عليّ أن أوقظ إخوتي، وأن أنقل إليهم الخبر.
وبالرغم من أني تصرفت بنضج، كوني الابنة الكبرى، وأيقظت أختي، وأخي الصغير، ونقلت لهما الخبر، ونهضت واغتسلت، وقمت بالاتصال لكل أقارب أبي لأنقل لهم خبر موتها، وتظاهرت بالتماسك لوقتٍ طويل، لم أكن أعرف كيف كان عليّ أن أشعر!
كانت هذه هي المرة الأولى التي أفقد فيها أحد أفراد عائلتي، وكانت والدتي! كيف لي أن أعرف ما الذي علي فعله، أو الشعور به!
كنت أدفع نفسي للتماسك بأكثر مما يحتمله الأمر، وكان ثمة ما ينهار داخلي!
مرّت ثمانية أعوام، ولا يزال الحكي عن تلك اللحظات فاجعًا، كأن ثقبًا يتسع في قلبي، وأهوي فيه!
ليس بوسعي القول أني أفتقد أمي كثيرًا، فهذه الكلمات لا تصفُ تحديدًا ما أشعر به. الأمر أشبه بأمل كبير علقته، ثم سقط وتلاشى. أشبه بندمٍ؛ لأني كنت أنتظر الوقت الذي سيأتي، لأقضيه معها، وأعرفها أكثر.
كانت علاقتنا معقدة للغاية، بالكاد بدأت تتحسن في الأشهر القليلة التي سبقت موتها، وكنت على نيةٍ أن أشتري لها باقة وردٍ أحمر لعيد ميلادها الذي يسبق عيد الأم بيومٍ واحد، لكنها دخلت في غيبوبتها الأخيرة في التاسع عشر من مارس، في اليوم الذي يسبق ذكرى ميلادها التاسعة والأربعون.
بيني وبين أمي ، لمعظم سنوات عمري الخمس والعشرين آنذاك، وقف الاكتئاب كجدار هائلٍ. ولا شيء آخر.
بعد موتها بحين؛ قال لي أحدهم: لا شكّ بأنك تشعرين بالذنب نحوها!
لم أفهم ما الذي يقصده بالذنب، لقد كنت ألومها لوقتٍ طويل على ما أمرُّ فيه! والذي يعرف “صفية”، يعرف أنها امرأة طيبة، اجتماعية، سهلة المعشر، مستمعة جيدة، بشوشة في كل حال، تحب الحياة، دافئة. لذا يصبح لومي أنا “جثة الاكتئاب الرمادية” أسهل، وأكثر منطقية.
ليس هناك الكثير من الندم ولوم الذات على أمرٍ لا يمكن تغييره بالنسبة لي، فيستحيل استرجاع الوقت الذي مضى، أو الناس الذين رحلوا، وليس بوسعي تعذيب نفسي على ما لم يكن لي يدٌ فيه. لكن أستطيع الآن القول إني أعرف نفسي جيدًا، وفي مرحلة تصالحٍ مع الاكتئاب.
ينقسم الناس إلى قسمين حين يتعلق الأمر بالاكتئاب، المكتئبون، والآخرون.
لا يفهم الآخرون ما يفعله الاكتئاب من دمارٍ، ولا ما يمر به المكتئبون، وفي حين يحاول البعض التفهم، يقوم البعض الآخر باللوم، ويوجه أصابع الاتهام بالضعف و.. و..
وتقول الأرقام أنه يوجد حول العالم 300 مليون شخص يعاني من الاكتئاب، ويؤدي الاكتئاب الحاد أحيانًا إلى الانتحار، وهو ثاني أكثر الأسباب شيوعًا للوفاة بين الفئة العمرية من 15 -29، وتتأثر النساء بالاكتئاب أكثر من الرجال. *1https://www.healthline.com/health/depression/facts-statistics-infographic
يشبه الاكتئاب إعاقة ذهنية – نفسية، تتطلب العلاج النفسي وأحيانًا باستخدام الأدوية، ويمكن التصالح معه بعد بعض الوقت.
اقرأ أيضًا: ستائر الذاكرة
” إن المشاعر الحبيسة التي لا يتم التعبير عنها لا تموت أبدًا، بل تدفن حية، لتعود لاحقًا بوجه قبيح”
سيغموند فرويد