كتابة مقال
أصبح التدوين جزءًا من ثقافة اليوم الحضرية التي نعيشها في تسارع كلبٍ مجنونٍ لاهث، وسواءً كان تدوينًا كتابيًا أو مرئيًا فهو يحفظ كمًا من البيانات والمعلومات ويثري الحصيلة الثقافية للبشرية. وبقدر ما حل التدوين المرئي مشكلة الكثيرين الذين لا يستطيعون ترتيب الجمل و كتابة مقال ، فلا يزال هناك قدرٌ كبير من الناس يشعرون بالخجل من الحديث أمام الكاميرا أو إظهار أجزاء من حياتهم ومنهم. لذا يكون خيار كتابة هذه الأفكار أفضل من نواحٍ كثيرةٍ بالنسبة لهم، وأولها اتاحة الفرصة لهم للحديث وترتيب حديثهم على مهلٍ وبالطريقة التي تريحهم.
.
وبقدر ما تعنيني أهمية التدوين كإرث إنساني ثمين وسجل تجارب غني ومصدر معلومات واسع، فطريقة كتاب مقال بسيط هي ما يعنيني عنه هنا. فالكثير منا تراوده الأفكار طوال الوقت في الطريق أو العمل أو المنزل أو حتى الحمام، ومعظم الأفكار يتلاشى في الفراغ لصعوبةٍ في تدوينها أو حتى تكاسلٍ، وأحيانًا تؤدي عملية التأجيل في التدوين أو عدم معرفة من أين نبدأ في الكتابة إلى ضياع الفكرة تمامًا.
يحدث معي هذا، وربما يحدث معكم أيضًا! ومع الوقت اكتشفت أنه لكتابة فكرةٍ ما علينا تحضير حقيبة أدوات تشريحٍ “سفري” في أدمغتنا، لأن كل فكرةٍ هي حشرةٌ مجنحة؛ إن لم نمسكها ونشرحها وندونها في ذات اللحظة فستطير غالبًا باحتمالٍ أقل من ضئيلٍ بأن نلتقيها مجددًا أو بالغالب ستموت! وإن كان التدوين صعبًا في اللحظة لظروف مثل العمل أو ضيوف فيفضل أن تدون أهم ما في الفكرة في مفكرة صغيرة تكون متوفرةً دائمًا لهذا الغرض. لا تكتف بتدوين كلمتين أو ثلاث، اكتب كلماتٍ موحية ستنشط الفكرة من جديد في ذهنك حين تعيد النظر إليها، ولو توفر لديك بعض الوقت وكان في ذهنك تخيل لجزئية من النص، فدونها بالتأكيد! إن الأفكار النصية المتسلسلة تشبه الوحي الذي ينزل مرة واحدةً بالأغلب، واستعادتها كما خطرت صعبٌ من صعوبة استعادة لحظة ذهنية وشعورية ممزوجةٍ معًا.
.
ولتبدأ كتابة مقال جهز عدة تشريحك أولًا وأمسك حشرتك وضعها على طاولة التشريح: ما الذي أتى بهذه الحشرة إلى رأسي؟ أجنحتها بالتأكيد حملتها إلى هنا؛ ولتكن الأجنحة في الكتابة هي مستثيرات الفكرة الخارجية أو الداخلية، قص الأجنحة وشرّحها” لتحدد ماهية الشيء الذي جعلك بدايةً تفكر في هذا الأمر” أو “الشيء الذي تحب أن تجعله كمدخلٍ في حديثك لقارئك”. وسواءً بدأت من حيث بدأت الفكرة في رأسك أو أتت إليه وتحدثت بصدقٍ تام، أو ابتكرت مدخلًا شيقًا لقارئك لتحمله على متابعة القراءة فهو ما سيكون مقدمة مقالك بكل الأحوال. ستؤدي مقدمة المقال دور المذيع الذي يمهد لقصةٍ مصورة.
بعد ذلك نمسك جسد الحشرة، وننظر داخله بعمق. وهي نظرةٌ داخلية لأنفسنا بالتأكيد، إلى موروثنا الثقافي وأفكارنا التي بنيناها طوال الوقت عن هذه الفكرة؛ بالإضافة إلى مشاعرنا ودرجة تأييدنا لها.
إن معظم الأفكار لا تأتي من فراغ أو من مشاهدةٍ عابرةٍ لمشهدٍ قصيرٍ لا يتجاوز الثواني، بل إنها تتكون بمرور الوقت من مشاهدات متعددة وأفكار محيطةٍ تتغذى بها، حتى تأتي لحظة نضجٍ ما ووضوح تتحرك فيها حشرة الفكرة فوق رؤوسنا تخبرنا أن أفكارنا تجمعت وأصبحت كبيرةً بما يكفي لنشعر بها وندرك محتواها. وحين تكتب هذا في جسد المقال تشرح هذه التفاصيل المتعلقة بمخزون المعلومات عندك، تورد أفكارًا وتدعمها، تبدي سخطك أو رضاك عنها، تقيمها وتضرب أمثلة بتسلسلٍ منطقيٍ لكل ما تقوله؛ بالنسبة لك أو كما سيبدو للقارئ ليصله ما تود قوله له بشكلٍ صحيح.
.
وفي آخر المقال ستكتفي ببضعة أسطر، تفتح فيها رأس الحشرة وهو أهم جزءٍ بالتأكيد. ستلخص أهم فكرةٍ وستضع خاتمةً واضحة ومنطقية لا يهم نوعها أيًا كان! استفهاميةً أو استنتاجيةً أو اعتذاريةً أو حتى تراجعية. الأهم من ذلك أن تسير وفق دفق تسلسل القراءة الشعوري والمنطقي للمتلقي، من التصاعدية البطيئة في المقدمة والاهتزازات الكثيرة في جسد المقال إلى الهبوط في الخاتمة والذي سيوصل ذهن القارئ إلى الوجهة مع تحريكِ شيءٍ في دواخله، أثر يجعله لا ينسى مقالك بمجرد الانتهاء منه.
اقرأ أيضًا: عشرة تحديات يجب أن تقوم بها خلال العام الجديد
وكما كل الأشياء في حياتنا والتي تحتاج للكثير من التدريب لاتقانها، فالكتابة تحتاج للمثابرة والاستمرارية لتصبح سهلة وسلسلة، وممتعة ومفيدة في الوقت نفسه. لا شك بأنك الآن تتذكر فكرةً ترغب في كتابة مقال عنها، أحضر ورقة وقلمًا أو اكتفِ بفتح الويندوز أو نوتةً في هاتفك الذكي وطبق ما قرأته هنا واكتب مقالك.
.
“لا وقت أفضل للبدء من الآن”..