في اليوم المائة لرحيل جدتي الحبيبة لم أتمكن من كتابة ما خططت لكتابته، مرّ اليوم عصيبًا وطويلًا .. ونسيت فحسب. والآن مر مائة يومٍ وأسبوع، وأشعر أن في الذاكرة بعض مما أحتاج قوله.
لا أشعر قط أنني استوفيت حقها في الكتابة بعد رحيلها، ولا حتى في محاولة تخليدها في كلماتي التي يملؤني إيمان سخيف أنها ستبقى بعد موتي.
ثمة مايستيقظ فينا بعض الصباحات يتساءل عن الأماكن التي ألفناها لسنين طويلة، وبرغم أن السقوف في كل مكان تقريبًا تتشابه – بيضاء وخاوية إلا من إضاءات وشباك العناكب- إلا أن نظرة إلى المكان حولنا تستدعي الحنين، لضحكات أمهاتنا ومحاضراتهن الطويلة وأماكن جلوسهن المعتادة في صالات المنزل وليس في غرفهن الخاصة.
وبعد مائة يوم في الذاكرة ..
إن فقد أحبّ امرأتين إلى قلبي يجعل كلّ حنيني مرتبطًا بهما، ماهو المنزل والوطن والأهل إن لم تكونا هناك؟!
وحين أزيح ستائر الذاكرة وأشاهد عرضها، تظهر أمّي امرأةً بيضاء بعينيين واسعتين وشعرٍ ناعمٍ خفيف يلتف حول وجهها وهي تضحك، لا أستطيع تذكرها إلا ضاحكةً .. حتى وهي تكسر ملاعق مطبخها الخشبية على ظهور اخوتي الأولاد .. وهي تخطئ وتنسى السكين في ساندوتشة والدي .. تخونني ذاكرتي في تذكر غضبها وحزنها .. وتقتص كل مشاهد حياتها القاسية والحزينة.
وحين يأتي عرض جدتي، تبدو امرأةً جميلةً راقية بالغة التهذيب، ليس بوسع أحد التصديق أنها لم تتلق تعليمًا، لقد كانت هذه المرأة تقرأ وتتحدث العربية، تتحدث الهوسا* وتفهم بعض الانجليزية، بالغة التهذيب ومليئة بعزة النفس رغم كل مامرت به، فرضت على نفسها عمرًا من الوفاء بأي كلمة أو وعد قطعته ومنعت نفسها من قول كلامٍ جارح لأحد أيًا كان مقدار غضبها. كانت أكثر تحضرًا وتقبلًا من أيّ من الأمهات اللواتي كنّ بنصف عمرها.
هاتان المرأتين كانتا جداري وسندي وتطلعي وميزاني في الحياة، كان الكثيرين يستندون عليهما، ولم تكونا تعتمدان على أحد.
لن أدّعي أن الأمور بيننا كانت دائمًا على مايرام، لكنّ هذا يعني فحسب أنهما عملتا بشكلٍ رائع لتربيتي قويةً مثلهما.
شكرًا لكما، ووداعًا.. وإلى اللقاء في العالم الآخر.
التنبيهات/التعقيبات