إن عائلات الطبقة المتوسطة تنتج أجيالًا تسير في الطريق إلى خط الفقر .
في ذات العالم الذي نعيش فيه– نحن الناس العاديون جدًا؛ يوجد أناس يتناولون قطعة فطيرة دونات مغطاة بأوراق الذهب بمائة دولار، يحملون حقيبة ذات ماركة بـ ثلاثمائة دولار، يرتدون فساتينًا لحفلاتٍ ساهرة تجاوز قيمتها العشرة آلاف دولار، يقيمون حفلات زواج بتكلفة تتجاوز الثلاثون ألف دولار، يذهبون في رحلة على الطائرة بتذكرة قيمتها ثمانون ألف دولار، يشترون سيارة بمبلغ خمسة ملايين دولار، خاتم ألماس نادر بمبلغ ثمانية وأربعين مليون دولار، لوحة فنية نادرة لرسام مشهور بأكثر من مائة مليون دولار، ويبدو أنه لا حدود يتوقف عندها إنفاقهم.
أصغر هذه المبالغ قد يكون كافيًا لتعيش أسرة كاملة على خط الفقر وليس تحته لشهرٍ كامل، وأكبرها يُحيي اقتصادَ دولةٍ صغيرةٍ مِن دول العالمِ الثالث، ويحلّ مشاكل آلاف الناس.
لو أنك ولدت قبل أكثر من عشرين سنةٍ في عائلة من الطبقة المتوسطة، عائلة من النوع الذي رفع نفسه من خط الفقر باجتهاد أفراده وسعيهم لتحسين وضعهم من خلال التعليم والعمل. ولربما يكون قد حظيَ والديك أو أحدهما بمنحةٍ دراسية في دولةٍ أخرى آنذاك، وكان زواجهما بسيطًا لم يتكلفا فيه ولا في تأثيث عشهما، لم يغرقا في الديون التي تستغرق حياتهما حتى يأتي أول حفيد لهما، ليبدآ في تسديد ديون زواج أبناءهما!
الطريق إلى خط الفقر
لو أنك تنتمي لهذه الطبقة! ستمر عليك التفاصيل القادمة كشريط حياتك، أو تصورٍ مخيفٍ لما تخشى حدوثَه.
لعلّ والداك بذلا جهدهما وقدما بعض التنازلات لتدرس في أحسن مدرسةٍ في مدينتك، وتوقفا عن الادخار لينفقا المال على دراستك الجامعية في جامعة لائقة.
وإنك تدرك أنهما مهما بذلا من جهودٍ لتحسين مستقبلك، ستبقى تركض بعد تخرجك من الجامعة ركض الوحوش لتحصل على وظيفةٍ بدون الوساطات والعلاقات!
وإن فكرت باللجوء لخيار تطوير نفسك لتكون من النخبة المختارة التي تحصل على وظيفةٍ بسهولة؛ سيكون التطوير كلفةً قاصمة على ظهر والديك اللذين ظنّا أن مشوار بذلهما انتهى عند انتهاء دراستك الجامعية. دورات اللغة والمهارات تكلف ما تكلفه الدراسة في الجامعة، والحصول على شهادة الماجستير يمر عليها من العقبات ما مر على ما سبقها.
الطريق إلى خط الفقر
وهنا تتوقف حياتك!
اقرأ أيضًا: الإجتهاد وعلاقته بالنجاح!
عند نقطة معينة في أسفل السلم المهني تتوقف حياتك قبل أن تبدأ، أو في الحقيقة لا تبدأ أبدًا!
كنتيجة طبيعية ستتجه إلى وظائف قليلة الشأن يتهرب منها الجميع، كي تغطي مصاريفك الأساسية جدًا. وحين تفكر باحتياجك لبعض التطوير لمهاراتك وإمكانياتك لتحسّن من مستوى معيشتك، ستستدين بعض المال. وتعمل بجدٍ أكبر من أجل سداده، ومن هنا تدخل بوابة دوامة الديون والسداد التي لا يعرف أن لها نهاية. كلّ ما تفعله من محاولاتٍ لتحسين حياتك لا تجعلها أحسن، تزداد الديون وتقل القدرة على السداد، ويبقى نمط حياتك هو هو؛ تسير على الخط الأعلى من خط الفقر مباشرةً-وهو حادٌ مثل الصراط المستقيم- وتظلّ مهددًا بالسقوط في أي لحظة!
وسيأتي يومٌ وتصل إلى نقطةٍ ترغب في الاستقرار وتكوين أسرةٍ صغيرةٍ مثلما يفعل أي قطٍ في الحي-أقصد أي إنسانٍ على الأرض. وستحتاج للمزيد من الديون للزواج والبيت، والديون الجديدة تحتاج إلى مزيد من السداد، وفي غمار هذا كله ستجد نفسك تنزل في سلم الرتب الاقتصادية قليلًا قليلًا. وبدلًا من أن تسير على الخط الذي يعلو خط الفقر صابرًا ممتعضًا ولكن بخطى ثابتة، تجد نفسك معلقًا به بإصبعٍ واحدة، مغمضًا عينيك عن الليالي التي تصل فيها لخط الفقر وما تحته. تتناسى الأيام التي عالجت فيها ألم ضرسك بأزرار القرنفل، والماء والملح، وألم بطنك بالماء الدافئ ومشروب الينسون. تتجاهل الوجبات البسيطة الخالية من أي بروتين أو فيتامينات، والمشروبات المريرة الحارة في مغبة الصيف. ظلام انقطاع الكهرباء، والليالي الشتوية الباردة بعيدًا عن أي وسائل تدفئة!! وماذا عن مستقبل الأبناء الذين ستنجبهم إلى هكذا حياة!
الطريق إلى خط الفقر
لم تكن حياتك ممرًا طويلًا آخره نفق مضئ، بل إنك جئت من النور الذي كان يحمله لك والداك ويؤملان بألا ينطفئ لآخر عمرك، والوهم الذي صنعا تخيلاته بناءً على الظروف البسيطة التي عاشاها والفرص التي واتت تلك الفترة من عمرهما. ثم سارت حياتك باتجاه الظلام للأسفل! تشعر أنك متعلقٌ بيدين زلقتين على عمود الحياة، تنزل بإيقاعٍ متصاعد، حتى تحترق كفيك وتترك العمود وتستسلم وتقع!
وفي لحظات مثل هذه يخطر لك أولئك الذين يبعثرون المال في الرياح على أشياء تافهةٍ أو لا تعني لك شيئًا، بضعة آلاف دولارات سيصرفها أحدهم على رحلةٍ صيفية لأسبوعين قد تحل مشاكل حياتك كلها! مئاتٌ قليلة قد تسدد ديونك وترتب وضع أسرتك لعام أو عامين، ثمن قارورة عطرٍ فاخرةٍ قد يطعمك أنت وأسرتك لشهرٍ كاملٍ برفاهية. خيارات الناس الأغنياء تشعرك بالحقد، بالكراهية، وامتلاكهم لكل هذه الثروات التي لا يعرفون ما يعملون بها تجعل حياتهم تافهة وحياتك أكثر تفاهةً.
إننا وببالغ الأسف لم نعد نعيش في زمنٍ بسيطٍ، يمكننا فيه تجاهل وضعنا الاقتصادي وتقبله والتكيف معه. ولم يعد المال رفاهيةً في الطعام واللباس والعطور والسفر، بل أصبح المال هو العلم والطب والمهنة والتكنولوجيا. ستجد أناسًا منا يتخلى بعضهم عن دراسة تخصصٍ يهتم به لأنه يكلف الكثير من المال، وآخرون يقتلون أحلامهم لأن جيوبهم لا تتسع لها. أناس يبدون جهلة لأن التكنولوجيا تحتاج أجهزة غالية، وتعلمها يحتاج للمال كذلك. أناس يفقدون وظائفهم لأنهم قديمين جدًا ولم يطوروا أنفسهم، لأن التطوير كان أكثر كلفةً مما يجنونه في أعوام.
قد يبدو هذا المقال للقارئ في لحظاتٍ محبطًا وداعيًا للاستسلام، لكنه في الحقيقة ليس كذلك!
اقرأ أيضًا: عشرون درسًا حياتيًا!
إن هذا المقال ليس غير إعادةِ شريطِ حياة الطبقة المتوسطة التي تنهار كل يومٍ في طريقها إلى قبو خط الفقر وما وراءه، وليس أكثر من تذكير لأصحابها بأن يتوقفوا عن لوم أنفسهم لأن ركض الوحوش الذي يمارسونه منذ أعوام لم يوصلهم إلى مكان، ويمكنه أن يكون رسالة قصيرة لأصحاب الأموال التي لا يعرفون أين ينفقونها لتذكرهم أنهم يملكون القدرة والخيار لتغيير حياة أناسٍ كثيرين بالقليل من أموالهم.
التنبيهات/التعقيبات