قبل بضعة أيامٍ كنت أتحدث مع صديقةٍ موجودةٍ هنا في الغربة عن التعليم في اليمن والمدارس هناك وهنا، وحينها جاء ذكر مدرسةٍ جديدة ورسومها الدراسية رخيصة جدًا!
أثار استغرابي -لوهلةٍ حين عرفت- تسرع كثيرٍ من اليمنيين -النازحين بسبب الحرب-ونقلهم أبناءهم إليها!
مدرسة لا تمت إلى المدارس بصلةٍ، لا من حيث المبنى ولا المرافق، ولا حتى المعلمين والنظام المتبع! ومع ذلك فإن كثيرًا من العائلات اليمنية أسرعت ونقلت أبناءها لهذه المدرسة بسبب أن رسومها الدراسية أرخص من أي مكانٍ آخر.
ليس بوسع المرء انتقادُ سلوكٍ مثل هذا لأنه يشين نفسه بنفسه، وخاصةً إن لم يكن السبب هو ضيق ذات اليد. وبما أن الفارق بين رسوم هذه المدرسة ورسوم مدارس أخرى أفضل قليلًا ليس كثيرًا، فإنه أمرٌ مستغرب ومبتذل!
إن معظم الناس الذين يملكون خيار النزوح أو السفر لأطراف الدنيا بحثًا عن حياة أفضل يسعون للحصول على تعليمٍ جيدٍ على الأقل لأبنائهم ويبذلون كل ما يمكنهم من أجل أن يمنحوا أبناءهم مستقبلًا أفضل في هذا العالم، وليجنبوهم تكرار معاناتهم التي مروا بها.
ولكن مرارة الأمر تتجلى حين يتضح أن هذا الأمر أكبر بكثير من كونه سلوك أناسٍ مهاجرين ونازحين تحملهم ظروفهم على الاقتصاد والتقشف بما لديهم من المال. إن المصيبة الحقيقية أن هذا الفعل ليس إلا انعكاسٌ صغيرٌ لثقافة مجتمعٍ وشعبٍ كامل لا يأبه بأهمية التعليم جيلًا بعد جيل!
مسيرة التعليم في اليمن
خلال 50 عامٍ مضت تغير العالم كله تمامًا، وبسرعةٍ مرعبةٍ شملت كل مجالات الحياة. لكن اليمن ظلت عالقةً في نقطةٍ ما وسط المحيط على ظهر خشبةٍ، لا يتغير منها إلا ما يفعله بها الزمن. ورغم أن التغيير طال جاراتها من كل الجهات، وأحدث أثرًا فيما حولها. إلا أنها بقت تسير بخطىً بطيئةٍ جدًا.
ارتفع مستوى التعليم في قطر والامارات ودول الشام بشكلٍ فارقٍ، وواكب التطورات في لبنان والسودان والمغرب وتونس وغيرهم. وبقي التعليم على حاله في اليمن، إن لم يكن قد تدهور عامًا بعد عام.
قد يكون الفساد الإداري والسياسي سببًا كبيرًا في هذا التأخر والتخلف، لكن نظرة أعمق في وضع التعليم في اليمن تجعلنا نفهم تفاصيل المشكلة أكثر.
بنيت المدارس في اليمن بعد الثورة، ولكنها قد لم تكن أبدًا كافية لأعداد الطلاب المتزايدة عامًا بعد عام. ولسنواتٍ عديدة كان المعلمون المصريون والسودانيون يملؤون المدارس والجامعات، ولكن العملية لم تكن مخططةً بشكلٍ سليم ولم يتم تأهيل كادر تعليمي على أيديهم، وبرحيلهم بدأ فصل آخر من التراجع!
فتحت الجامعات وأبواب كليات التربية أبوابها للراغبين في أن يصبحوا معلمين ومعلمات، ولكنها بقت ككراسي الاحتياط للطلاب الذين لا يستطيعون الحصول على قبولٍ في كليات أفضل، ناهيك عن سوء التدريس ومنهجية التعليم في معظم الجامعات. ثم يتخرج هؤلاء الطلاب بأعدادٍ مهولةٍ ولا يصلون إلى السجل المدني للوظائف الحكومية إلا بعد أن يكونوا قد مروا بعددٍ من المدارس الخاصة تزيد على أصابع اليد للتدريس.
وهنا يأتي سوق المدارس الخاصة التي بدأت كموضة منذ عدة سنوات.
في كل شارعٍ ستجد مدرستين خاصتين مقابل مدرسة حكومية واحدة، أسعارها منافسة في الحقيقة وأعداد طلابها معقول، لكن رواتب معلميها أقل من رواتب عمال النظافة وحراس العمارات أو منظفيها. ناهيك عن أن هذه النوعيات من المدارس تم نقلها لخارج اليمن بتصاريحٍ من وزارة التربية والتعليم!
وبشكلٍ أدق فإن المشكلة ليست في كون الرسوم الدراسية أرخص، ولا في كثرة المدارس لو كانت تقدم خدماتٍ مجتمعية وتهدف إلى رفع مستوى التعليم. إن المشكلة الحقيقية تكمن في كون هذه المدارس أشبه بدكاكين تجارية في كل حارة، لا تقدم للطالب إلا أقل القليل محسوبًا بما يدفعه من المال!
وعلى نفس الحال يعمل كثير من المعلمين على قدر الراتب، ويختار كثير من الأهل المدارس على مبلغ الرسوم الدراسية! وإذا شعر أحد الأبناء برغبته في عدم إتمام دراسته فإنه يتركها بدون اعتراض أحد! وإذا قرر الوالدان عدم إرسال أبناءهم للمدرسة فلهم مطلق الحرية! لا أحد سيسائل أحد ولا أحد سيحاسب أحد!
إن قيمة التعليم لم ترتفع في اليمن إلا من أجل المال، يسعى التجار لبناء المدارس، ويرسل الآباء أبناءهم للمدارس من أجل أن يدخلوا الجامعة ويحصلوا على وظائف. وليس من أجل قيمة الإنسان والوطن. بل في الحقيقة لا قيمة للتعليم ولا المعلم ولا حتى الطالب في بلادنا!
إن المعلم يأتي غالبًا من أسرةٍ فقيرةٍ ؛ لأن كليات التعليم لا تكلف كتبًا كثيرةً ولا موادًا مثل كليات الطب والهندسة، وينتهي فقيرًا لأنه يعمل في مهنة في أسفل سلم الرواتب في اليمن!
ويأتي الطالب من أسرةٍ غير حريصة ٍ على التعليم بأكثر من حرصها على المال الذي سينفق على هذه العملية أو هربًا من كلام الناس ومعايرتهم، ثم ينخرط في مجتمعٍ لا يهتم بالالتزام ولا الجد، بل إن المجتهد محطّ سخريةٍ فيها لأنه يمنح التعلم كل ما لديه!
ثم يكتمل البلاء بآخر قشة على ظهر التعليم في أنه لا مكانة خاصة بالمتعلمين في هذا المجتمع! لا الوظائف تتحصل على أساس الشهادات، ولا المراتب ترتفع بارتفاع العلم في مجتمع معياره القبيلة والتقاليد والعلاقات وهذا له صلة بهذا وهذا ابن عم زوجة ذاك! ينحنون لشيخ القبيلة الأمي ويصفعون المعلم، يصغون لتافه يحمل السلاح لا يحسن نطق الكلمات، ويهينون حامل القلم والكتاب!
وقد لا يكون هذا وضع جميع الناس، لكنه وضع الكثير منهم، ومؤشر مفزعٌ يعكس حجم بدائية المجتمع وتأخر وعيه. وقد يكون في نقطةٍ ما الركن المتهدم من زاوية البيت والذي لن تقوم له قائمة بدون إصلاحه!
خلاصة المشكلة!
إن نظرة واحدة إلى وضع التعليم في اليمن تجعلك تدرك حجم المشكلة الممتدة من بيت الطالب إلى صفه! ناهيك عن المجتمع الذي يعجّ بثقافاتٍ مريضة لا تسهم في تطور أجياله. وكون التعليم هو الركن الأكثر تهدمًا لا يعني أن الأمر يتوقف هنا، لأنه من هنا تبدأ المشكلة وتنتهي في دوائر متداخلة دون نهاية!
خلاصة مشكلة بلادنا تكمن في العقول التي تديرها والتي تعيش فيها وتنجب وتربي أجيالًا، وهذه العقول لا مفتاح لها إلا العلم والتنوير. وطالما نظل ندور في دائرة الجهل والتهرب من إعطاء التعليم حقه، فإننا باقون فيها إلى أبد الآبدين.
للأسف التعليم في اليمن اصبح اكثر مأساه
نسأل الله اللطف والمساعده لتحسين التعليم في اليمن
وبتراجع التعليم يضيع الحُلٌم في الغد ..
لكن لابدّ أن نحاول!