الحزن الذي يتلو الخسارة

قبل أيامٍ، كان أبي على الهاتف يخبرني أن صديقة أختي الأقرب فقدت والدها صباحًا. لم تكن صديقة أختي الأقرب فحسب، بل كل عائلتها بما فيهم والدها الراحل، كانوا سندًا لنا طوال السنوات الماضية، ودعمًا حقيقيًا حين توفيت والدتي قبل سنوات؛ نعرف أفرادهم واحدًا واحدًا، وجمعنا الكثير من الحلو والمر منذ التقينا في حارتنا، ولهذا لم يكن تقبل الخبر سهلًا علينا، ويصعب الأمر أكثر لأننا بعيدتين بآلاف الكيلومترات، لا نستطيع أن نكون موجودتين من أجلهم في محنتهم. تنتابني مشاعرٌ مريعةٌ حين يفقد شخصٌ أعرفه أحد أقاربه، وخاصةً إن كان مقربًا؛ تعود إلى ذاكرتي العاطفية كل الارتباكات التي مررت بها خلال فقد والدتي وجدتي في السنوات التي مضت. 

وبعدها ببضعة أيام فقدت صديقتين أخريين والديهما، في ظروف مختلفةٍ تمامًا، وتراكم الأمر جلب الكثير من الأفكار والشجون، والتي ربما أتت متأخرةً كثيرًا عن وقت الحوادث.
*1صورة الغلاف Photo by Kerri Shaver on Unsplash *2الصورة الثانية Photo by Cristian Newman on Unsplash

الحزن الذي يتلو الخسارة، مرحلةٌ متقدمةٌ من المشاعر؛ يأتي بعد الصدمة، والخوف، والغضب.

وعدا الحزن الذي سيلازمك طيلة حياتك دون شفاء، فإن الصدمة والفاجعة في أول الأمر، وسماع الخبر، أو عيش اللحظات الأولى، أشبه بماءٍ باردٍ ينسكب على رأسك وأنت نائم بأمان. صعقة كهربائية موجهة إلى القلب في لحظة غفلة، كأنك أغمضت عينيك لوهلةٍ وفتحتهما لتجد عالمك انقلب رأسًا على عقب. ثمة من انتزع منك قلبك في هنيهة ضعف، وتركك فارغًا ممتلئًا بالوجع.  تشعر أنّك -بعد ابتلاع الفاجعة بصعوبة؛ خائفٌ، ينتابك هلعٌ مريع، يسرق الموت آمالك وأحلامك، ينتزع منك الأمان، ويجبرك على ترتيب حياةٍ جديدة في ظل الغياب. 

عبثًا تحاول استعادة أنفاسك ونفسك؛ تضع كوبًا ناقصًا على المائدة، وتنسى أن تترك ملعقةً خارج الحسبة، أن ملابسًا لم تعد موجودة في سلة الغسيل، فتشعر بالغضب، لا تدري من تلوم، ولا على من تصبّ غضبك، ففي الموت ليس هناك من يلام، فالموت ليس خطأ أحد، إنه قدرنا فحسب، نهاية خط الأعداد للكائنات الفانية التي لا يمكن أن تصل إلى اللانهاية.

إعلان

أخيرًا، بعد معركةٍ داخلية طويلة -أو معارك- لا يتأذى منها سوى صاحبها، ومحاولاتٍ يائسة لإعادة الحسابات وملء الفراغ الذي خلفوه دون جدوى، يأتي الحزن ، ينهمر مثل مطرِ سلامٍ، مصحوبًا بالكثير من الدموع. نتصالح مع حقيقة الفقد، ونحاول ألا ننسى من لم يعودوا أمام أعيننا في زحمة الحياة. لا يخيف الموت الموتى، فهم على الجانب الآخر الذي سيأتي إليه الجميع يومًا ما، لكنه يقلق راحة الأحياء، الذين يفتقدون أحبتهم أولئك الذين لم يعودوا بينهم، والذين يتلاشى حضورهم لحظةً بعد لحظة، تنمحي روائحهم وأصواتهم من ذواكرنا، ولم يعد بإمكانهم العودة إليهم.

*3صورة الشمع Photo by Mike Labrum on Unsplash

ويبقى الحزنُ صديقًا جيدًا، يحلُّ بسكينةٍ على قلوبنا المفجوعة، يساعدنا أن نمضي بهدوءٍ في حياتنا، دون أن ننسى من نحبّ.

فلا أحد يتمنى لمن يحبونه أن تتوقف حياتهم طويلًا بمضيه، لا أحد سيكون سعيدًا إن كنّا ننهار باكيين وندع حياتنا تتفكك بعد رحيلهم.

وعلى اختلاف الفترات التي يقضيها كل امرئٍ في المراحل السابقة، فإننا برغم قسوة الأمر، ورغم مجئ الموت بدون مواعيد، ولا تهيئة، نحتاج أن نمضي في حياتنا، وننشغل، حتى يحين الوقت لنلقى من نحبّ، فلا أحد يتمنى لمن يحبونه أن تتوقف حياتهم طويلًا بمضيه، لا أحد سيكون سعيدًا إن كنّا ننهار باكيين وندع حياتنا تتفكك بعد رحيلهم. 

ويبقى الحزن صديقًا جيدًا، يحلُّ بسكينةٍ على قلوبنا المفجوعة، يساعدنا أن نمضي بهدوءٍ في حياتنا، دون أن ننسى من نحبّ.

المشاركة تعني شكرًا بلغة الإنترنت 🙂

شاركنا رأيك

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

سمية طه

كاتبة، أو هذا ما أحاول أن أكونه.

اشترك في نشرة تدويني

مقالاتنا تأتي إليك أولًا بأول

إعلان

إحصائيات المدونة

  • 44٬959 زائر وزائرة

تصنيفات المقالات

الكاتب على تويتر